- النظرية السياقية
ترتبط النظرية السياقية contextual theory باللساني البريطاني جون روبرت فيرث J. R. Firth (ت 1960)، وتقوم هذه النظرية على النظر إلى المعنى بوصفه "وظيفة في سياق"[1]. وقد أحدثت بذلك تغيرا جوهريا في النظر إلى المعنى من علاقة عقلية بين الحقائق والرموز الدالة عليها كما رسمها أوجدن وريتشاردز في مثلثهما الدلالي المشهور إلى "مركّب من العلاقات السياقية"[2] حسب عبارة فيرث.
وقد استخدم السياق في هذه النظرية بمفهوم واسع بحيث يشمل السياق الصوتي والصرفي والنحوي والمعجمي، ولا يظهر المعنى المقصود للمتكلم إلا بمراعاة الوظيفة الدلالية للألفاظ المستخدمة. وبناء على ذلك فقد فرّق فيرث بين خمسة وظائف أساسية مكونة للمعنى:
(1) الوظيفة الأصواتية phonetic function
(2) الوظيفة الصرفية morphological function
(3) الوظيفة المعجمية lexical function
(4) الوظيفة التركيبية syntactical function
(5) الوظيفة الدلالية semantic function[3]
وتتحدد كل وظيفة من هذه الوظائف في إطار منهج يعرف بمنهج الإبدال method of substitution، ولا يظهر معنى العنصر اللغوي على أي مستوى من المستويات الخمسة المذكورة إلا بتميزه السياقي من مقابلاته التي يمكن أن تقع موقعه في ذلك السياق، فإذا لم يكن ثمة بديل سياقي ممكن لذلك العنصر اللغوي فلن يكون له معنى. ويمكن أن نوضح ذلك بما يعرف بنماذج الإتباع في الدراسات التراثية العربية؛ حيث لا يكون للكلمة الثانية من كلمتي الإتباع معنى لأن وجودها مقصور على ذلك السياق؛ إذ ليس هناك بديل يمكن أن يحل محلها، فكلمة بسن في (1) مثلا ليس لها معنى، لعدم أدائها وظيفة سياقية، لأن الوظيفة تقتضي كونها بديلا ممكنا لغيرها من الكلمات، وهنا ليس لها بديل، ولذا فليس لها معنى.
(1) هذا حسن بسن.
أما في نحو (2) فإن كل عنصر من عناصرها له معنى لوجود بدائل سياقية ممكنة لها، فعلى المستوى المعجمي وقعت كلمة حضر بديلا فعليا لمقابلات أخرى محتملة مثل غاب، نجح، رسب إلخ، ووردت كلمة عشر بديلا لتسع وثمان وإحدى عشرة إلخ، وجاءت كلمة مدرسات بديلا مقصودا لنحو طالبات، موظفات إلخ. وعلى المستوى الصرفي فقد جيء لكلمة حضر بصيغة فَعَلَ بدلا من يفعل، افعل، فاعل، مفعول إلخ؛ للدلالة على الفعل الماضي، وجيء لمدرسات بصيغة فاعل بدلا من أي صيغة أخرى ممكنة للدلالة على اسم الفاعل، وجيء بـ (ات) بدلا من (ين) مثلا للدلالة على جمع المؤنث السالم.
(2) حضر عشر مدرسات.
وعندما تستخدم جملة ما بالفعل في مقام تخاطبي معين تتحقق وظيفتها الدلالية، وقد يغير ذلك المقام أو ما يسميه مالينوفسكي Malinowski بسياق الموقف context of situation المعنى الموضوع لها إلى معنى آخر، كأن يخرجها من معنى الخبر إلى الأمر أو الاستفهام.
وقد فرّق جفري إلز Jeffrey Ellis بين معاني السياقات الآنية instantial context أو الفعلية actual ومعاني السياقات الكامنة أو المحتملة potential. فمعاني السياقات الآنية هي المفهومة من مثال معين في مكان معين، في نص معين، في مقام معين. أما المعنى السياقي المحتمل فهو كل المعاني السياقية الممكنة للوحدة اللغوية عند تجريدها من النصوص التي تقع فيها،[4] وترتبط المعاني السياقية المجردة بالجملة، والمعاني السياقية المحتملة أو الكامنة بالقولة الكامنة، فإذا ما تحققت تلك السياقات في مقام تخاطبي معين فالناتج هو قولة فعلية.
ويقسم هاليدي Halliday العلاقات السياقية إلى علاقات داخلية تربط العناصر اللغوية بعضها ببعض، وعلاقات خارجية تربط العناصر اللغوية بما تدل عليه في الخارج، ويرى أن جميع الوحدات اللغوية تترابط إما في تقابلات مغلقة closed contrasts إذا كانت من العناصر القواعدية كما في التقابل بين صيغة الماضي والمضارع، أو في تقابلات مفتوحة open contrasts إذا كانت من العناصر المعجمية كما في التغاير بين مدرسات وطالبات مثلا.[5]
1- المصاحبة
نشأ عن تقليل النظرية السياقية من أهمية العلاقات الخارجية، أي علاقة العناصر اللغوية بما تحيل عليه أو تشير إليه في الخارج زيادة العناية بالعلاقات الداخلية، وقد تجسّدت هذه العناية تجسدا واضحا في ما سماه فيرث بالمصاحبة collocation، وهي "الترابط المعتاد لكلمة ما في لغة ما بكلمات أخرى معينة في جمل تلك اللغة"[6] وتبدو أهمية المصاحبة في كونها المحدد الأساسي لمعاني المفردات اللغوية؛ فبعض معاني كلمة شجاع مثلا يتحدد بمصاحبتها لكلمة رجل وبعض معاني كلمة رجل تتحدد بمصاحبتها لكلمة شجاع، وبذلك أصبح مصطلح تصاحبي collocational مرادفا –كما يذكر لاينز- لمصطلح معجمي.[7] الذي ارتبط في أذهان الكثيرين بما تدل عليه الكلمة خارج اللغة.
2- سياق الموقف
يرى فيرث أن سياق الموقف مصطلح واسع لا يقتصر على السياقات اللغوية بل يشمل أيضا السياق الثقافي، وأقوال وأفعال المتخاطبين وغيرهم، وكل الأشياء المتصلة اتصالا وثيقا بالقولة المستعملة، وتأثبر الحدث اللغوي، وقد ذهب جيفري إلز إلى أن مفهوم سياق الموقف كان من أهم إسهامات فيرث في نظريته السياقية.[8]
ولئن كانت نظرية فيرث تعوّل معوالا كبيرا على التحققات السياقية المتوالية عبر المستويات اللغوية المختلفة ابتداء بالسياق الصوتي، ومرورا بالسياق الصرفي والنحوي والمعجمي، وانتهاء بالسياق الدلالي، فإن سياق الموقف هو العامل الأخير والحاسم في تحديد المعنى.
3- مزايا النظرية
لعل من أهم مزايا هذه النظرية موضوعيتها وعدم خروجها عن بنية اللغة والسياق الثقافي المحيط بها. وقد سنح منهجها السياق الطريق للمهتمين باللغة أن يوجهوا اهتمامهم إلى العناصر اللغوية نفسها والأنماط التي تنتظم فيها بدلا من صرف انتباههم إلى العلاقات النفسية بين اللغة والذهن أو اللغة والخارج، أو إلى العمليات النفسية لتي تحدث في الدماغ.
وكذا فإن العناية بالسياق تعني مراعاة سمة من أهم السمات المتأصلة في طبيعة اللغة وهي السمة التراكمية للعناصر اللغوية؛ إذ يتسنى للمهتمين باللغة من خلال رصد أهمية هذه السمة وتطبيقاتها أن يكتشف الدور الذي يؤديه تسلسل العناصر اللغوية وتفاعل بعضها مع بعض في عمليتي الفهم والإفهام الضرورتين في عملية التخاطب اللغوي.
ومن مزايا هذه النظرية أيضا تركيزها على الجوانب الوظيفية من اللغة، التي تعد الجوانب الأهم نظرا إلى أن الوظائف اللغوية هي التي ابتكرت من أجلها اللغة البشرية بوصفها أهم وسائل الإبلاغ على الإطلاق.
4- الانتقادات الموجهة للنظرية
إن تعويل هذه النظرية على السياق جعلها تجنح إلى المبالغة في دور السياق في صنع المعنى إلى الحد الذي أغفلت معه الوظيفة الإحالية والإشارية للمفردات والجمل اللغوية حين أسقطت من حسابها ما تحيل عليه الكلمات من صور ذهنية وما تشير إليه من حقائق خارجية على مستوى الكلمات، كما أنها تجاهلت النسبة الخارجية أو اشتراطات الصحة للجملة التي تبرز أهميتها في دراسة العلاقات بين المفردات المعجمية وكذلك بين الجمل اللغوية، وذلك مثل الترادف، والتضمين والعكس، والتضاد والتناقض، ونحوها.
وبدلا من أن تقصر هذه النظرية دور السياق على المهمة الترجيحية التي تبدو في تحديد الدلالة المقصودة وإقصاء الدلالات غير المقصودة، نراها تجعل من السياق المنبع الوحيد الذي تستقي منه العناصر اللغوية دلالاتها. فالكلمة مثلا ليست "كالماء الذي يخضع لونه للون إنائه، وإنما هي كالحرباء التي تتلوّن بلون المكان الذي تحل فيه، أي أن الكلمة أشبه بالحرباء تمتلك إمكانات معينة، كل منها يبرز في موضعه المناسب، وليست كالماء الذي لا يملك شيئا من تلك الإمكانات، وإنما يخضع لما يفرض عليه من الخارج".[9]
[1] C. E. Bazell, J. C. Catford, M. A. K. Halliday and R.H. Robins (eds), In Memory of J. R. Firth, (Longman, 1979), p.v.
[2] J. R. Firth, Papers in Linguistics, p.19.
[3] J. R. Firth, Papers in Linguistics, pp. 26-7.
[4] See: J. Ellis, “On Contextual Meaning”. In Bazell and Others (eds). In Memory of J. R. Firth, (Longman, 1979), p.81.
[5] See: M. A. K. Halliday, “Lexis as a Linguistic Level”. In Bazell and Others (eds). In Memory of J. R. Firth, (Longman, 1979), p. 160.
[6] R. H. Robins, General Linguistics: An Introductory Survey, 2nd ed, (London: Longman, 1978), p.63.
[7] J. Lyons, “Firth’s Theory of Meaning”. ”. In Bazell and Others (eds). In Memory of J. R. Firth, (Longman, 1979), p.295.
[8] Ellis (1979: 79.
[9] محمد محمد يونس علي، وصف اللغة العربية، دراسة حول المعنى وظلال المعنى (طرابلس: منشورات جامعة الفاتح، 1993) ص 105-6.
أزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذفشكرًا كثيرًا دكتور ..
ردحذفاسْتَفَدْتُ كَثيـــــــــــــرًا منَ الْمَوْضُوع ..
عفوا رقية، وشكرا على مرورك
ردحذفطرح جميل
ردحذف