ظلّت الحياة رتيبة، واستمرت رحلة الذهاب والإيّاب اليوميّة إلى المدرسة، ولم يأت من الأيّام ما خرق عادتها إلا يوم واحد من أيّام نهاية صيف 1969 عندما كنت بصحبة الوالد وصديق مقرّب منه متجهين إلى المدرسة في حدود الساعة السادسة والنصف صباحًا. كان والدي يقود السّيارة بتأنٍّ على عادته في ذلك، ولكنّه في هذا اليوم بالذات زاد بطؤه، وقلّ تركيزه على الطريق، وتسمّر سمعه إلى المذياغ مصغيًا إليه بانتباه شديد. كانت برامج ذلك اليوم استثنائيّة هيمنت عليها الموسيقى العسكريّة، وبحكم التوقّعات التي كانت سائدة آنذاك قفز إلى ذهن والدي أنّ الشلحي (مستشار الملك) قد استولى على السلطة، وأنّ تغييرا في نظام الحكم قد بدأ.
حاول والدي أن يزيد من سرعة السيّارة، وكأنّه متلهّف لمعرفة ما يجري بيد أنّ كلّ ما حولنا من أحداث ومظاهر لم يزد الأمر إلا غموضًا، فالشوارع ملأى بالجنود، وهم يرتادون خوذات المعركة، والسيارات العسكريّة تجوب الشوارع جيئة وذهوبًا. أثارت هذه المظاهر توقّعات جديدة في ذهن الوالد، فشرع في طرحها على صديقه، وكان من أبرزها أنّ العمل قد يكون من فعل بعض ضبّاط الجيش بدعم من جمال عبد الناصر رئيس جمهوريّة مصر في ذلك الوقت؛ لِما كان له من نفوذ كبير على تيّارات مختلفة من الشّعب الليبي، ولاسيما صغار الضباط، وعامة الشباب والمثقفين. استمرّ النقاش متمحورًا حول هذه التوقعات، ولم يقطعها إلا حدث غريب وقع أمام كنيسة قرب مركز شرطة المدينة بشارع عمر المختار حيث كان بعض الجنود يطاردون نفرًا من رجال الشرطة، وهم يهرولون مذعورين خائفين، ولم يهدّئ من روعهم إلا بعض الراهبات اللائي كنّ يشفقن عليهم من التعرّض إلى الضرب أو القتل، ويطلبن منهم اللجوء إلى الكنيسة لعلّها تكون ملاذًا آمنًا لهم من سطوة الجنود. كانت الشرطة آنذاك رمزًا للنظام الملكي؛ إذ هي الحارس الأمين والضامن الوحيد لاستمراره في الحكم، وهذا ما يفسّر إصرار الجنود على إجبار رجال الشرطة على خلع قبّعاتهم التي كانت تحمل الشعار الملكي، وقد كان هذا المنظر بالذات مثيرًا للوالد، فقد جعله يوقف السيّارة على اليمين، ويترجّلها وهو يهتف ويقفز فرحًا، وكأنّه قد غنم الدنيا وما فيها، ولم يعُد يأبه بوقاره المعهود، بل خرج عن طوره، وبدأ يصيح بكلام تمتزج فيه عبارات الشتائم للحكومة بعبارات الدعم والتأييد للجيش وما قام به. لم يكن هذا الابتهاج مستغربا من والدي، ولم نحتج إلى كبير عناء لكي نفهم سرّ ابتهاج الوالد بهذا الحدث؛ إذ لم يمض وقت طويل على خروجه من السجن بعد خطبة جمعة ساخنة هاجم فيها حكومة الملك، واتهمها فيها بأنها أدة طيّعة في قبضة أمريكا وبريطانيا، وأنّها في خدمة مصالح القوى الكبرى، وأنّ هذه القوى هي التي تهيمن على النفط، وأنّ الشعب لم يستفد من ثروته كما ينبغي.
لازلت أذكر جيّدًا يوم القبض عليه، كان ذلك بعد غروب شمس إحدى جمعات سنة 1968م، حين حضر اثنان من رجال المباحث إلى المنزل في سيّارة فولكس واجن مدنيّة. طرقا الباب فخرجت أنا، ثمّ لحقني الوالد، فسلّما عليه، ثمّ أبلغاه بأنّ لديهما إذنا من النيابة باصطحابه إلى مركز المباحث. لم يستغرب الوالد كثيرًا، ولم يفتح على ذهنه باب التكهّنات؛ لأنه يدرك جيّدا سبب مقدم الرجلين، وافق على طلبهما، ووعدهما بمرافقتهما، ولكنه التمس منهما أن ينتظراه بعض الوقت حتى يفرغ ضيوفه من عشائهما وينصرفوا، وافق الرجلان على التماسه، وجلسا في سيّارتهما ينتظران إلى أن خرج الضيوف، وخرج معهما الوالد مودّعًا، ومستقبلا زمنًا مجهولاً لايدري كيف سيبدأ ولاكيف سينتهي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق