ابحث في هذه المدونة

الأحد، 14 يونيو 2009

لمحة إلى تاريخ اللغة العربية

على الرغم من قدم اللغة العربيّة، لم تظهر الكشوفات ما يشفي الغليل في معرفة تاريخها القديم، ولعلّ من أقدم الشواهد النصية للعربية هو نقش وجد على ضريح عثر عليه في النمارة التي تقع في الصحراء السورية يعود تاريخه إلى سنة 328م.[1] أما الشواهد الشعرية المروية مشافهة فيبدو أن عمرها لا يزيد على قرن أو قرن ونصف من الزمان قبل بعثة النبي محمد –صلى الله عليه وسلّم-، والظاهر أن هناك شبه إجماع بين الباحثين على تقسيمها إلى قسمين رئيسين، هما:

أ- اللغة العربية البائدة

وهي لغة منقرضة – كما هو واضح من تسميتها بالبائدة- قبل العصر الجاهلي المعروف تأريخيا بما نقل عنه من شعر غزير، وينضوي تحت هذه اللغة:

1- اللحيانية: وتنسب إلى لحيان شمال منطقة الحجاز، وهي أقدم ما عرف من العربية البائدة.

2- الصفوية: وقد انتشرت تاريخيا في مناطق الصفا، وكتابتها تبدأ من اليمين إلى اليسار، وبالعكس.

3- الثمودية، وقد انتشرت في كل من الحجاز، ونجد، ودمشق، وتكتب من أعلى إلى أسفل، وتنسب إلى قوم ثمود الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم.

ب- اللغة العربية الباقية:

وهي اللغة التي ورد بها الشعر الجاهلي، ويعود ما وصلنا منها مكتوبا إلى حقبة قصيرة قبل الإسلام، ربما لا يتجاوز ثلاثة قرون قبل نزول الوحي، وسميت بالباقية؛ لأنها مازالت حية حتى الآن، ويطلق على هذه اللغة في شكلها البدوي القديم النقي "اللغة الفصيحة" بمعنى اللغة الواضحة الخالصة البيّنة، وهو معنى قريب مما تدلّ عليه pişū الآشورية التي تعني "خالص أو ساطع"، وكذلك paşşīħ الآراميّة التي تعني "ساطع ومشرق".[2] وربما كان هو المعنى المقصود بقوله تعالى: "وهذا لسان عربي مبين".[3] وقد مرّت بمراحل تاريخية مختلفة كان من أبرزها مرحلة التوحّد الذي اتسمت به قبيل الإسلام حين هذبت بتأثير من النفوذ الديني والسياسي للقرشيين، بعد أن كانت متسمة بالتنوع اللهجي، حيث شاعت اللهجة الحجازية في غربي الجزيرة وجنوبها، واللهجة البدوية النجدية في وسط الجزيرة وشرقها. وإذا كان الشعر الجاهلي الذي جمعه رواة اللغة ونحاتها هو الحافظ، والشاهد لهذه اللغة قبل الإسلام، فلا غرو أن كانت العناية بالقرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والأدب العربي خلال العصور أهم عامل لاستمرارها، والمحافظة عليها، علاوة على الأثر الإيجابي الذي تركه القرآن الكريم في توسيع معجمها، وإدخال مصطلحات جديدة ضمن ثروتها اللفظية.

بعد الفتوحات الإسلامية هيمنت اللغة العربية على اللغات واللهجات التي كانت تستعملها شعوب المناطق المفتوحة، ففي الشام مثلا حيث كان الناس يتحدثون الآرامية، والإغريقية، فضلا عن العربية التي شاعت في البوادي كان للعربية قبول كبير زكّاه ابتهاج السكان المحليين بالإسلام، وقد كان لوجود العربية القديم في تلك المناطق، والتقارب بين الخصائص البنيوية، والتاريخية للغتين الآرامية والعربية (الناشئ عن انحدارهما عن فصيلة واحدة هي الفصيلة السامية) أثر فعال في هيمنة العربية على غيرها من اللغات المستعملة في الشام. وفي العراق الذي اقتصر الوجود العربي فيه على القبائل العربية التي سكنت البادية، وكانت السيطرة اللغوية فيه في المدن للآرامية والفارسية البهلوية، بدأت العربية تسود تدريجيا، وتطغى على غيرها من اللغات المحلية إلى أن أصبحت اللغة المسيطرة ليس فقط في البادية، بل في المدن العراقية نفسها. وربما انطبق هذا الأمر جزئيا على إيران، حيث ساعد الوجود العربي قبل الإسلام وبعده على الضفة الإيرانية من الخليج وفي خراسان وقم على احتضان العربية في تلك المناطق. أما في مصر فقد كانت اللغة القبطية هي اللغة التي يتكلمها معظم السكان، وإن كانت الإغريقية مفضلة في الإدارة، علاوة على العربية التي كانت موجودة في سيناء وقنا والصحراء الشرقية وغيرها من المناطق المصرية، وعندما تقبّل المصريون الإسلام، ودخلوا فيه أفواجا توسعت رقعة استخدام العربية، إلى أن أصبحت لها السيادة الكاملة على اللغة القبطية في الأراضي المصرية كافة"حتى تلاشت تماما في القرن السادس".[4] وفي شمال أفريقيا الذي عاشت فيه أغلبية من الأمازيغ (أو البربر كما يحلو لغيرهم أن يسميهم) جنبا إلى جنب مع شعوب عربية هاجرت في حقب مختلفة قبل الإسلام، استطاعت العربية أن تصهر اللغة البربرية في بوتقتها بعد انتقال المهاجرين إلى هناك، وتوالت الهجرات العربية بعد ذلك، وإن احتفظ البرابرة بلهجاتهم المحلية في بعض المناطق، ولاسيما الجبلية منها حتى يومنا هذا.[5] كما فقدت اللغتان اللاتينية التي كانت لغة الإدارة، واليونانية المنافسة لها مكانتهما عند هؤلاء السكان.[6]

ولعل الجدير بالاهتمام عند دراسة العربية وتطورها خلال العصور أن لغويي العربية لم يعيروا اللهجات المحكية اهتماما يذكر، بل كان كل اهتمامهم منصبا على العربية الفصيحة يدفعهم إلى ذلك إعجاب شديد ببلاغتها، وحرص ديني وقومي على المحافظة عليها، وهو ما يحول دون تقديم تصور علمي موثق للخصائص البنيوية لتلك اللهجات المحكية، ناهيك عن وصف دقيق للأنظمة الصوتية والقواعدية والمعجمية لتلك اللهجات. ولذا فسنقتصر في تقديمنا لمحة إلى تطور العربية على اللغة المكتوبة.

العربية خلال العصور

مع الامتزاج والتفاعل الذي حدث بعد الفتوحات الإسلامية بين العرب والأعاجم سكان الدول المفتوحة، فشت ظاهرة اللحن التي بدت إرهاصاتها تاريخيًّا بظهور الإسلام، وجغرافيًّا في الحجاز وغيرها من حواضن الإسلام، ويعزو اللغويون القدامى فشو اللحن إلى هذا الاختلاط بين العرب وغيرهم من الأمم، ولئن بدأت هذه الظاهرة بانتهاكات محدودة لقواعد النحو فقد توسعت واستفحلت مع مرور الزمن باستخدام اشتقاقات شاذة، وقياسات غير صحيحة، وتوسع في استخدام الكلمات في معانيها غير الوضعية، وقد أدى ذلك باللغويين المحافظين إلى تبني رقابة مفرطة اتجاه الشعراء، وصل أحيانا إلى نقد شديد لكبارهم، ولم يسلم من هذا النقد حتى شعراء البادية المتقدمون الذين عدوا من الداخلين في الإطار الزماني والمكاني لعصر الاستشهاد، ومن ذلك انتقاد الأصمعي لذي الرمة (وهو آخر الشعراء المحتج بشعرهم-عند المضيّقين للإطار الزماني للاستشهاد- توفي 117هـ) حين استخدم أُدْمانة بدلا من صيغة التأنيث الصحيحة لهذا الجمع، وهي أدماء، وقد بالغ الأصمعي أحيانا في تخطئة هؤلاء الشعراء كما في رفضه لاستخدام زوجة بدلا من زوج.[7]

لقد كان فشو اللحن سببا كافيا لنشوء نهضة لغوية همها الحفاظ على نقاوة اللغة وسلامتها، وليس غريبا أن تكون البصرة والكوفة حاضنتين لهذه النهضة؛ إذ فيهما وفي غيرهما من المدن العراقية من الأعاجم ما حفّز الغيورين على اللغة العربية على القيام بمحاولات جادة لوضع علم يعنى بصون الكلام عن الخطأ، وهو النحو، والغريب في الأمر أن الذين تكفلوا القيام بالأمر معظمهم من الأعاجم. ولعلّ التأمل السريع في أصول النحاة الأوائل، ولاسيما الطبقة الثانية منهم تبرهن على هذه الحقيقة، بل إن أشهر النحاة كسيبويه، والكسائي، والفراء ليسوا من أصل عربي. ومما يدعو إلى الإعجاب بهذه الطائفة من النحاة حرصهم الشديد على أن تكون المادة اللغوية المجموعة لصوغ قواعد النحو مأخوذة من الأعراب، وهذا ما بدا واضحا في إصرار سيبويه على عدم الاستشهاد بغير "العرب الموثوق بعربيتهم" بحسب وصفه.[8]

ولعل من التحولات البارزة في تاريخ اللغة العربية، ولاسيما في مجال النثر تلك النهضة العلمية التي شهدتها الحقبة العباسية، فقد أورث الثراء الثقافي الناشئ عن الاحتكاك بالثقافات الأجنبية كمّا كبيرا من النثر الفني والعلمي، أسهمت في ازدهاره حركة الترجمة التي لقيت دعما سخيا من خلفاء الدولة العباسية. ومن الأسماء المشهورة التي يعود لها الفضل في إتحاف العربية بنماذج من الأدب الأجنبي في القرن الهجري الثاني عبد الله بن المقفع (142هـ)، الذي آلى على نفسه القيام بترجمة عدد من الكتب الفارسية من أهمها وأشهرها كتاب "كليلة ودمنة" الذي اشتمل على قصص رمزية للحيوانات. وربما لا تقتصر أهمية هذا العمل على المضمون القصصي الجديد الذي أدخله ابن المقفع في العربية، بل تعدته إلى الخروج عما ألف في لغة الأدب الإسلامي، والأموي، من اتسامها بالطابع البدوي، وغلبة جزالة اللفظ عليها، وما تبع ذلك من تعقيد في تركيب الجملة. وهكذا استطاع ابن المقفع أن يسهم في عصرنة اللغة باستخدام لغة ميسرة بعيدة عن حوشي الكلام وغريبة. وواكب هذا التطور النثري محاولات تحديثية أخرى في مجال الشعر، تولى أمرها بجرأة غير معهودة الشاعر العباسي المشهور بشار بن برد (167هـ)، فقد آثر قرض الشعر في بحور خفيفة، وبلغة ميسرة تنزع أحيانا إلى استخدام كلمات أو عبارات سوقية مبتذلة.[9] ومما ينسب إليه من الشعر الخفيف:

رباب ربة البيت

تصب الخل في الزيت

لها عشر دجاجات

وديك حسن الصوت

وليس غريبا أن يتولّى هذا التحديث في نثر العربيّة وشعرها هذان الأديبان الفارسيّان اللذان عرفا بنزعتهما الشعوبيّة، وربما حُفزت محاولاتهما التحديثية –مع ما فيها من إيجابيات- بهذه النزعة لانتهاك النمط البدويّ للغة العربيّة، وربما أضيف إلى ذلك عامل آخر ذكره مايكل زويتلر،[10] وهو عامل التعليم الذي حفّز الأدباء على الخروج على تقليد القدماء.

ومع ذلك استمر العرب في أوائل العصر العباسي في محافظتهم على قوانين العربية في كل مستوياتها الصوتية، والصرفية، والنحوية، والمعجمية، أما المولدون فقد عرف عنهم الخلط بين بعض الأصوات، ولاسيما تلك التي يفرق بينها الإطباق والانفتاح كالسين والصاد، والتاء والطاء، كما عرف عن أهل الكتاب القاطنين في الأقطار المفتوحة خارج جزيرة العرب استخدامهم لغة شعبية لا ترقى في نقاوتها، وأساليبها، وتمسكها بالإعراب، والرتبة، وقواعد المطابقة إلى الفصحى التي يستخدمها المثقفون، وأهل البادية.

وعندما جاء المأمون إلى السلطة في نهاية القرن الثاني الهجري وفي العقدين الأولين من القرن الثالث ازدهرت الحياة الثقافية والعلمية بفضل الدعم الكبير الذي تهيّا للكتاب والعلماء والأدباء من هذا الخليفة المغرم بالثقافة، والأدب. وقد كان للاهتمام الكبير الذي غمر به المترجمين آثار إيجابية قل نظيرها في تاريخ الدول. ومن ذلك التوسع في نقل الفلسفة، والعلوم اليونانية.

كل ذلك أسهم في توسيع معجم العربية، وعزّز قاموسها الاصطلاحي، ووسمها بالطابع العلمي بعد أن غلب عليها الطابع الأدبي منذ قرون مضت، فدخلت بذلك مصطلحات جديدة مثل العرض، والجوهر، وعُرّبت طائفة من الكلمات مثل فلسفة، وتأثر المؤلفون بالمناهج المنطقية والفلسفية، كالسبر والتقسيم، والقياس، ونحو ذلك.

وثمة عامل آخر كان له أثره الواضح في تطوير أساليب الحجاج، والمناظرات، وهو ازدهار المؤلفات الكلامية التي بادر بكتابتها المعتزلة للرد على شبهات الفلاسفة وغيرهم ضد العقائد الإسلامية، ثم تبعهم في ذلك الأشاعرة الذين ردوا على المعتزلة.

ورافق ذلك مزيد من التغيير في اللغة المحكية، فكثرت المخالفات القواعدية في بناء الكلمة والجملة، وزادت الصعوبات النطقية على المستعربين، وقد نقل الجاحظ في كتابه البيان والتبيين أمثلة كثيرة لما اشتهر في ذلك العصر من لحن عند عامة الشعب. وفي مقابل ذلك كانت هناك محاولات تجديدية في قرض الشعر تصنف في الدراسات اللسانية الحديثة في علم الأسلوبية، ومن ذلك ما اشتهر به أبو تمام حبيب بن أوس (ت 231هـ/846م) من جرأة في استخدام الاستعارة، والمحسنات البديعية.

وفي نهاية القرن الثالث الهجري بدأت الفصحى تفسح المجال للهجات المحلية إلى أن توسع الناس في استعمالها في القرن الرابع، وهو ما وثّقه المقدسي (ت 378هـ/985م) عند حديثه عن وضع العربية في أقطار العالم الإسلامي، ولعله من الغريب أن نعلم من كلامه أنّ أفصح اللهجات آنذاك ما كان سائدا في إيران بفضل العناية الكبيرة بدراسة النحو.[11]

وربما كان من أسباب تدهور الفصحى ميل الناس إلى التمدين، والتحضر الذي كان يقتضي (بحكم أنّ من تولى زمامه في ذلك العصر هم الموالي) التخلص من الطابع البدوي في كل مظاهره، وإن كان ذلك يعني التخلي عن النقاوة والفصاحة اللغوية، بل وصل الأمر إلى عدّ أولئك المتمسكين بالفصحى المعربة في أحاديثهم بالمتفيهقين،[12] بيد أن ذلك لم يكن العامل المهم في الاتجاه نحو تفضيل الحديث بالعامية، بل كان العامل الرئيس في ذلك هو كون الغلبة العِرقية في البلاد الإسلامية من نصيب الأعاجم، فضلا عن ظهور النزعات الشعوبية التي كان بعضها ناشئا عن رغبة من دعاتها في إحياء أمجاد حضاراتهم السابقة للإسلام، وبعضها لا يتعدى كونه ردود أفعال سياسية، واجتماعية، وحضارية، للتميز العرقي العربي في العصر الأموي.

ومع ضعف السيطرة العباسية على مقاليد الأمور في أواخر خلافتهم، وبدء ظهور الحكومات الأسرية المستقلة، زاد النزوع نحو العامية، فتوسعت رقعة استخدامها، تحت تأثير العزلة، والتباعد الجغرافي، وتفشي الأمية، ولعل من أمثلة ذلك ما حدث إبان العصر السلجوقي في الحقبة الواقعة بين القرن الخامس والسابع الهجريين، من صراع بين الفصحى والعامية.

وعلى الرغم من كل ما سبق، ظهرت أنواع جديدة من الأدب أثْرت به اللغة الفصيحة، ومن ذلك أدب المقامات الذي كان من أبرز روّاده الحريري (ت 516هـ). اعتمدت المقامات (التي اتسمت بطابع الهزل) على السرد الوصفي مع استخدام جمل قصيرة غلب عليها السجع والجرس الموسيقي.

وفي العصر الذي تولي فيه المماليك زمام الأمور في مصر في النصف الثاني من القرن السابع ظهرت كتابات استعملت في بعضها اللهجة المحلية، ولاسيما في المستوى المعجمي. وغلب على التأليف طابع التوسّع في كتابة الحواشي والشروح، وسادت الأمية والجهل عند عامة الناس. وقد مهّد ذلك لنشأة ظاهرة غريبة شهدها التاريخ اللغوي للعربية في نهاية القرن الثامن، فيها الكثير من الجرأة، والثورة على التقاليد العربية المحافظة، ومن أهم مظاهر هذه الجرأة استخدام اللهجات المحكية في الكتابة، وقد برز ذلك بوضوح في الكتابات الشعبية لسيرة عنترة، وسيرة بني هلال. واستمر هذا الانحطاط اللغوي في العصر العثماني، الذي تزحزحت فيه مكانة العربية لصالح اللغة التركية، واقتصرت أهميّة العربية على ممارسة الشعائر الدينية، وحافظت إلى حدّ كبير على مكانتها المقدّسة في قلوب الناس دون أن ينعكس ذلك في الجوانب التخاطبيّة والتعليميّة.

العربية المعاصرة:

لعلّ من أهم المراحل التي مرّت بها العربية الفصيحة ما حدث إثر حملة نابليون على مصر في سنة 1798م، فقد أعقب هذه الحملة نهضة سياسية، واقتصادية، وعلمية كان المصلح الألباني الأصل محمد علي (الذي تولّى السلطة في 1807م) أول المبادرين إليها عندما رفد خططه الإصلاحية بإرسال البعثات الدراسية إلى فرنسا، وتحديث النظام التعليمي، وكان من نتائج هذه الإصلاحات المبادرة بترجمة بعض المؤلفات الأوروبية إلى اللغة العربية،[13] وقد كان رفاعة الطهطاوي (ت 1873) رائدا في هذا المجال، ولعلّ من أهم إنجازاته إدارته لمدرسة اللغات التي أُسست في سنة 1836م، وبعد ذلك بخمس سنوات فقط تأسس مكتب للترجمة يعود له الفضل في ترجمة عدد من الأعمال العلمية والأدبية، والعسكرية، والإنسانية، مستفيدا في نشر تلك الأعمال من التسهيلات الجديدة التي أتاحتها المطبعة الداخلة حديثا إلى مصر في أعقاب الحملة الفرنسية التي قادها نابليون على مصر.

وبقدر ما أثار الانفتاح الثقافي على الغرب اهتمام المثقفين، وزاد من إحساسهم بما هم فيه من تخلف مقارنة بالمجتمعات الغربية الحديثة، تحركت فيهم مشاعر الحنين إلى النهضة العلمية، والثقافية، والحضارية التي بناها أسلافهم في العصور الذهبية للدولة الإسلامية، وهو ما مهّد السبيل لظهور حركة إحياء التراث التي كان من نتائجها الاتجاه نحو تحقيق كتب التراث، والدعوة إلى استخدام اللغة الفصيحة بعد أن شاع ما سماه إبراهيم اليازجي (ت 1906م) بلغة الجرائد التي اتسمت بالركاكة، وكثرة الأخطاء، وشاع فيها التقاعس عن مراعاة الصحة المعجمية، والقواعد النحوية والصرفية.

ومع التوسع في ترجمة العلوم والآداب الأجنبية ظهرت الحاجة إلى تصنيف معاجم تخصصية ثنائية اللغة نذكر منها معجم أسماء النبات لأحمد عيسى (1930م)، ومعجم الحيوان لأمين معلوف (1932م) المنشورين في القاهرة، ومعجم الألفاظ الزراعية لمصفى الشهابي المنشور في دمشق (1943م) وغيرها. [14]

وقد انتعشت حركة تصنيف المعاجم الثنائية بعد ذلك مستفيدة إلى حد ما من الجهود التي قام بها أعضاء المجامع اللغوية التي تأسس أحدها في دمشق (1921م)، وآخر في القاهرة سنة (1932م)، وآخر في بغداد (1947م).

وعلى الرغم من الجهود التي بذلها القائمون على المجامع اللغوية، وغيرهم من الغيورين على العربية من الباحثين، والصحفيين، اتسمت لغة التأليف العلمي والصحفي بما يعرف بالأخطاء الشائعة، وباستخدام أساليب جديدة غير معهودة في كتب التراث، وإن راعت في مجملها القواعد الصرفية والنحوية، وقد تسرّبت إلى هذه اللغة عبارات أجنبية المضمون نتيجة للتوسع في الترجمة، واعتماد الصحفيين، والإذاعيين العرب على وكالات الأنباء الأجنبية.

كل ذلك كوّن لغة قديمة في مجمل قواعدها وأنماطها التركيبية، ولكنها جديدة في مضامينها، وأساليبها، وطرائقها في بناء النص، جامعة في معجمها بين الكلمات الموروثة من اللغة الفصيحة (المستنبطة من الشعر القديم والقرآن الكريم)، والكلمات والعبارات المولدة في عصور مختلفة، والأساليب والعبارات المترجمة من اللغات الأوروبية، وهو ما سوّغ لطائفة من الباحثين الغربيين تسميتها بالعربية النموذجية المعاصرة.

ومن المراحل المهمة في تاريخ اللغة العربية مرحلة ما بعد الاستقلال من الاستعمار الأوروبي، وهي المرحلة التي بدأت منذ النصف الثاني من القرن العشرين تقريبا، وقد اتسمت هذه المرحلة بجمهرة التعليم، وتحديثه على الطريقة الأوروبية التقليدية، وبالتوسع في إرسال البعثات الدراسية إلى الجامعات الغربية، وقد أدى ذلك إلى التقريب النسبي بين اللغة الفصيحة، والعامية، ومن ناحية أخرى ترك الاحتكاك العلمي، والثقافي بأوروبا شعورا بالحاجة الماسة إلى نقل علوم الغرب إلى العربية، وأدى ذلك إلى دخول عدد كبير من المصطلحات الأجنبية، ولاسيما الإنجليزية، والفرنسية، كما ظهرت آثار هذه الترجمات في أساليب العربية، وبعض الأنماط التركيبية، ومن ذلك ذكر الفاعل مع صيغة المبني للمجهول، خلافا لما شاع في العربية من حذفه، وهو ما سوّغ تسميته "المبني لما لم يسم فاعله"، ويمكن أن نمثل لهذا الأسلوب الجديد بقولهم: "أُكل الفأر من قبل القطة" ترجمة حرفية للجملة الإنجليزية:

The mouse was eaten by the cat.

ومن ذلك أيضا تجنب استخدام المفعول المطلق الموصوف (نوع من المفعول المطلق المبين للنوع)، وتعويضه بمقابلات لما يعرف في اللغة الإنجليزية بالظروف والأحوال adverbs، تلك الأصناف النحوية المنتهية باللاحقة ly. وقد درج المترجمون الذين لم يتمكنوا من العربية بترجمته بعبارات تتألف من صفات مسبوقة بالجار والمجرور "بشكل"، أو في أحسن الأحوال بالجار والمجرور "على نحو"، وذلك كما في "بشكل سريع"، ويمكن التمثيل لذلك بجملة "ارتفعت الأسعار بشكل جنوني"، بدلا من "ارتفعت الأسعار ارتفاعا جنونيا".

ومن ذلك أيضا استخدام الكاف مع مجرورها بديلاً عن الاسم المنصوب على الاختصاص أحيانا، وبديلا عن الحال في أحايين أخرى، وذلك كما في "نحن كعرب لا نقبل بهذا"، بدلا من "نحن العربَ لا نقبل بهذا"، ونحو "عملت كطبيب عشر سنوات"، بدلاً من "عملت طبيبًا عشر سنوات". ومن الواضح أن هذه الكاف ترجمة حرفية لكلمة as الإنجليزيّة.

ومن العبارات الاقتصادية، والسياسية، والحضارية، والعلمية، المأخوذة من الإنجليزية التي اشتهرت في العربية، وشاعت في الصحافة، والإذاعة نقلا عن وكالات الأنباء قولهم:[15]

الدبلوماسية المكوكية

Shuttle diplomacy

عملية السلام

Peace process

أسلحة الدمار الشامل

Weapons of mass destruction

السيدة الأولى

The first lady

المسمار الأخير في النعش

The last nail in the coffin

حصة الأسد

The lions share

سياسة العصا والجزرة

The policy of the stick and carrot

سياسة فرّق تسُد

The policy of divide and rule

زوبعة في فنجان

Storm in a tea-cup

فرض تعتيما إعلاميا

To impose news black-out

إعطاء الضوء الأخضر

To give the green light

اقتطع جزءا أكبر من الكعكة

To take a bigger slice of the cake

تسريب الأخبار

To leak the news

سيولة نقدية

Cash flow

تعويم الجنيه

Floating of the pound

العد التنازلي

Countdown

العملة الصعبة

Hard currency

عملية .زرع القلب

Heart transplant operation

ومن ذلك أيضا عدد كبير من المجازات المحنطة، نذكر منها:[16]

حجر الزاوية

Cornerstone

قمة جبل الثلج

Tip of the iceberg

تجميد العلاقات السياسية أو الأرصدة

Freezing of political relations or assets

المناخ العاطفي

Emotional climate

وأخيرا نقول: إنه على الرغم من التطورت المتنوعة التي تعرّضت لها اللغة العربية خلال العصور، ومهما علا صوت أولئك المنادين بالتحرر من قيود اللغة الفصيحة، والمصرّين على الدعوة إلى إحلال اللهجات المحلية بدلا منها كسلامة موسى وسعيد عقل، فالظاهر أنّ التوجّه العام للعرب يسير نحو المحافظة على تراثهم المجيد، وعلى التمسّك بوحدة اللغة، وهو أمر تفطّن له عدد من اللغويين الغربيين كهانز فير الذي يقول:

"ولا شك أنّ لوجود لغة مكتوبة موحّدة في الأساس في الأقطار العربية كلها من العراق إلى المغرب قيمة عظيمة للذين يتكلمون العربيّة، مثاليًّا وعمليًّا؛ إذ هي رمز وحدتهم الحضاريّة القديمة ووحدتهم السياسيّة في الوقت الحاضر؛ لهذا فإنه يمكن الاستنتاج أنه لا يوجد سبب يجعلنا نتوقع أن يستبدل باللغة المكتوبة لهجةً محليّة، أو أن تنحّى عن الاستعمال العملي".[17]

ويرى يوهان فك -الذي قدّم ما يبدو أفضل دراسة أصيلة وجادّة عن تطور اللغة العربية- أن التخلي عن اللغة الفصيحة أمر مستبعد، يقول:

"ولقد برهن جبروت التراث العربي التالد الخالد، على أنّه أقوى من كل محاولة يقصد بها إلى زحزحة العربيّة الفصحى عن مقامها المسيطر. وإذا صدقت البوادر، ولم تخطئ الدلائل، فستحتفظ أيضا بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنيّة الإسلاميّة، ما بقيت هناك مدنيّة إسلاميّة".[18]

من كتاب الميّسر في فقه اللغة المطوّر

[1] Clive Holes, Modern Arabic: Structures, Functions and Varieties (New York: Longman, 1995), p. 8.

[2] ينظر حاييم رابين، اللغة العربية (ضمن كتاب دراسات في تأريخ اللغة العربية، ترجمة حمزة قبلان المزيني) (الرياض: دار الفيصل الثقافية، 2000)، ص 20.

[3] النحل: 16: 103.

[4] يوهان فك، العربية: دراسة في اللغة واللهجات والأساليب، ترجمة رمضان عبد التواب (القاهرة: مكتبة الخانجي بمصر، 1980)، ص 32.

[5] See Holes, 1995: 15-18.

وينظر محمود فهمي حجازي: مدخل تاريخي مقارن في ضوء التراث واللغات السامية (القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع)، 239-242.

[6] ينظر محمد خلف الله، العربية الوسيطة المبكّرة (ضمن كتاب دراسات في تأريخ اللغة العربية، ترجمة حمزة قبلان المزيني) (الرياض: دار الفيصل الثقافية، 2000)، ص 61.

[7]فك، 1980: ص52.

[8] سيويه، (القاهرة: بولاق، 11317هـ)، 1: 153.

[9] ينظر فك (1980)، العربية، ص 63-66.

[10] ينظر، مايكل زويتلر، العربية (مقتبس من كتابه The Oral Tradition Of Classical Arabic Poetry: Its Character and Implications ، وقد نشر ضمن كتاب دراسات في تأريخ اللغة العربية، ترجمة حمزة قبلان المزيني) (الرياض: دار الفيصل الثقافية، 2000)، ص 396-397.

[11] فك

[12] فك

[13] ينظر: فك، 1980: ص 239.

[14] ينظر، هانز فير، العربية المكتوبة المعاصرة (ضمن كتاب دراسات في تأريخ اللغة العربية، ترجمة حمزة قبلان المزيني) (الرياض: دار الفيصل الثقافية، 2000)، ص 78-79.

[15] See Holes, 1995: 38, 256.

[16] See Holes, 1995: 38.

[17] ينظر، هانز فير، العربية المكتوبة المعاصرة (ضمن كتاب دراسات في تأريخ اللغة العربية، ترجمة حمزة قبلان المزيني) (الرياض: دار الفيصل الثقافية، 2000)، ص 83.

[18] العربية، فك، ص 242.

هناك تعليق واحد: